بقلم: الشيخ أحمد أحمد جاد
إن عاشوراء من أيام الله تعالى التي نسبها إلى نفسه العلية، فقد أمر موسى أن يذكر قومه بها ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ (إبراهيم: من الآية 5)، وأيام الله هي آياته ونعمه.. من نجاة موسى وقومه، ومن فرعون وظلمه وغشمه، وفلق البحر، وأنه تعالى أغرق فرعون وجنوده الظلمة المعتدين المكذبين، وإنزاله على بني إسرائيل المن والسلوى، إلى غير ذلك من النعم.
وفي الحديث: "إن عاشوراء من أيام الله.." (من حديث مسلم: 1126، وأبو داود: 2443)، وعن قوله صلى الله عليه وسلم في الآية ﴿وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ﴾ قال: "بنعم الله تبارك وتعالى" (مسند أحمد: 5/122: 21027 حسن، ورواه غيره).
وفي الحديث: "هذا يوم عظيم يوم نجى الله فيه موسى وأغرق فرعون" (من حديث البخاري 3397، ومسلم 1130).. وفي رواية: "يوم صالح هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم" (حديث البخاري: 2004)، وفي رواية: "أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون.." (مسلم: 1130 وأبو داود: 2444)، وعن ابن عباس "ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى صيام يوم فضله على غيره إلا هذا اليوم يوم عاشوراء، وهذا الشهر (يعني رمضان)" (البخاري: 2006م)، وهذا يقتضي أن يوم عاشوراء من أفضل الأيام بعد رمضان ويوم عرفة.
صوم عاشوراء يكفر سنة: ومن فضل الله على الإنسان الذي من شأنه الخطأ والتقصير، أن جعل له أسبابًا للتوبة ومغفرة الذنوب، ومنها يوم عاشوراء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن صوم عاشوراء: فقال: "يكفر السنة الماضية" (مسلم: 1162)، ورُوي بألفاظ أخرى، (راجع ابن ماجة: 1738 والترمذي 752 كلهم في الصوم وأحمد 5/295: 22416 صحيح).
تعيين اليوم الذي نصومه: اختلف أهل العلم في يوم عاشوراء، فقال بعضهم هو اليوم العاشر، وقال بعضهم اليوم التاسع، وقال بعضهم نصوم التاسع والعاشر، وقال آخرون نصوم العاشر ويومًا قبله ويومًا بعده.. مع اتفاقهم جميعًا على أن هذا الصيام على سبيل الاستحباب وليس واجبًا.
- الرأي الأول: صيام العاشر من المحرم:
وهو رأي أكثر الفقهاء، وذلك للأحاديث السابقة، وأنه صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء فعلاً وأمر بصيامه"، قال القرطبي: "عاشوراء معدول عن عاشرة للمبالغة والتعظيم".. وقال ابن المنير: الأكثر على أن عاشوراء هو اليوم العاشر.. وهو مقتضى الاشتقاق والتسمية.. (راجع فتح الباري 4/288).
وقال النودي: وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى أن عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم، وممن قال ذلك... مالك وأحمد وإسحاق وغيرهم، وهذا ظاهر الأحاديث ومقتضى اللفظ. (راجع النووي شرح مسلم: ملزمة: 19/191 ط. الشعب).. قلت: ويؤيده ما رواه ابن عباس "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوم عاشوراء يوم العاشر" (الترمذي: 755 حسن صحيح)، وهذا الحديث صريح في الدلالة.
- الرأي الثاني: صيام يوم التاسع:
فقد سُئل ابن عباس عن صيام يوم عاشوراء فقال: إذا رأيت هلال المحرم فاعدد، وأصبح يوم التاسع صائمًا، قلت: هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه؟ قال: نعم (رواه مسلم: 1133 وأبو داود: 2446 والترمذي: 754 وأحمد: 1/239: 2135 صحيح)، وقال النووي: هذا تصريح من ابن عباس بأن مذهبه أن عاشوراء هو التاسع من المحرم، (النووي ملزمة 19/191 الشعب)، وهذا رأي ابن حزم، يقول: "ونستحب صوم يوم عاشوراء وهو التاسع من المحرم، وإن صام العاشر بعده فحسن" (22 المحلي: 6/438)، وقال ابن القيم: إن المستحب صوم التاسع فقط (عون المعبود: 7/111).
- الرأي الثالث: صيام التاسع والعاشر:
وذلك للحديث "حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع" قال: فلم يأت العام المقبل حتى تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (مسلم: 1134/133)، وفي رواية "لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع" يعني يوم عاشوراء (مسلم في السابق /134 وأحمد: 1/225: 1971 صحيح، ورواه غيرهما).. قال النووي: قال الشافعي وأصحابه وأحمد وآخرون: يستحب صيام التاسع والعاشر جميعًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام العاشر ونوى صيام التاسع.. ولعل السبب في صوم التاسع مع العاشر ألا يتشبه باليهود في إفراد العاشر، وقيل للاحتياط في تحصيل عاشوراء.. (راجع النووي في السابق والأحوذي شرح حديث الترمذي: 755)، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، ويقول ابن القيم: والصحيح أن المراد صوم التاسع مع العاشر.
- الرأي الرابع: صيام يوم قبله ويوم بعده:
أي صيام: 9، 10، 11 للحديث: "صوموا يوم عاشوراء وخالفوا اليهود: صوموا قبله يومًا أو بعده يومًا" (أحمد: 1/244 شاكر: 2154 حسن).. قال ابن حجر: كان صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب.. فلما فتحت مكة واشتهر أمر الإسلام أحب مخالفتهم، كما ثبت في الصحيح.. ثم أمر بأن يُضاف إليه يوم قبله ويوم بعده خلافًا لهم.. وهذا كان في آخر الأمر (راجع فتح الباري: 4/288).. وقال ابن القيم: إن رواية أحمد كانت عقب قوله صلى الله عليه وسلم "لأصومن التاسع" يبين مراده صلى الله عليه وسلم (راجع عون العبود: 7/111 في الهامش).
وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب: أدناها أن يُصام وحده، وفوقه أن يُصام التاسع معه، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر والله أعلم: (راجع فتح الباري: 4/289).. فالأفضل صيام: 9، 10، 11 ثم يليه: 9، 10 ثم يليه 10 ثم 9 والله أعلم.
تعليم الصبيان صوم عاشوراء: قال الرواة: فكنا بعد ذلك نصومه، ونصوَّم صبياننا الصغار منهم- إن شاء الله- ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة.. فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه حتى يكون عند الإفطار.. وفي رواية: نصنع لهم اللعبة.. فنذهب.. فإذا سألونا الطعام أعطيناهم اللعبة، حتى يتموا صومهم (راجع التعليق على حديث مسلم: 1136).
حكم صيام عاشوراء:
إجماع الفقهاء على استحباب صيامه، قال النووي: وحصل الإجماع على أنه ليس بفرض، وإنما هو مستحب.. أما قول ابن مسعود: كنا نصومه ثم تُرك، فمعناه أنه لم يبق كما كان من الوجوب، وتأكد الندب.. (راجع شرح مسلم ملزمة: 19/184)، فالفقهاء أجمعوا على استحبابه لكثرة الأحاديث الواردة.. وهذا يكفي في استحباب صيامه كما نقل الإجماع، في عون المعبود جـ7/108.
ونسأل الله أن يتقبل منَّا صيامنا وصالح أعمالنا في هذه الأيام المباركة.. والله المستعان.